منتدى الشلة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

حياكم الله في منتدى الشلة


    رحلة ابن فضلان والرسالة الحضارية

    بوكشة
    بوكشة
    المدير
    المدير


    عدد المساهمات : 124
    نقاط : 556
    تاريخ التسجيل : 23/08/2010

    رحلة ابن فضلان والرسالة الحضارية  Empty رحلة ابن فضلان والرسالة الحضارية

    مُساهمة  بوكشة الخميس أغسطس 26, 2010 7:57 am





    تحدثت بالأمس باقتضاب عن كتاب "رسالة ابن فضلان"، الذي سجل فيه احمد بن فضلان بعضا من وقائع رحلته الطويلة العجيبة من بغداد الى بلاد الصقالبة أو البلغار مرورا ببلاد الترك والخزر والروس، وهي الرحلة التي أمر بها الخليفة العباسي المقتدر بالله تلبية لرسالة ملك الصقالبة التي طلب فيها من الخليفة ان يرسل من يعلمهم تعاليم الاسلام ويفقههم في الدين.
    المؤرخون اعتبروا، وعن حق بالطبع، رسالة بن فضلان كما ذكرت بالأمس وثيقة نادرة لها فضل الريادة في التعرف بالدول والشعوب التي يحكي عنها في كتابه ولم يكن العالم يعرف عنها شيئا. بل ان بعض المؤرخين الغربيين اعتبروا ما ذكره ابن فضلان في كتابه بمثابة ادلة وحجج تاريخية دامغة فيما يتعلق باصل بعض الشعوب الغربية. باحثون ومؤرخون اوروبيون اعتبروا مثلا ان ما كتبه ابن فضلان عن الشعب الروسي على الضفاف الغربية لنهر الفولجا، هي ادلة تؤكد نظرية الاصل الاسكندنافي للروس، ولفكرة ان القبائل الروسية التي شكلت نواة الدولة الروسية في العصر الوسيط هي من شبه جزيرة اسكندنافيا وأصولها تعود الى قبائل الفايكنج.
    اذن، لرحلة ابن فضلان اهمية تاريخية كبرى من زوايا كثيرة.
    غير ان المرء كلما تأمل هذه الرحلة ووقائعها لا يملك إلا ان يفكر فيها من زاوية اخرى تتجاوز في اهميتها مجرد كونها وثيقة تاريخية، او مجرد كونها تبرز مدى التقدم العربي في ذلك الزمن والتخلف الغربي المريع.
    هذه الزاوية الهامة تتضح اذا طرحنا هذا السؤال وحاولنا الاجابة عنه: ما الذي دفع الخليفة العباسي آنئذ الى الاستجابة لطلب ملك الصقالبة وارسال هذا الوفد الى بلاده؟
    بلاد الصقالبة في ذلك الوقت كانت بالطبع بلدا بعيدا جدا. ولم يكن احد يعرف عنها أي شيء تقريبا، اللهم الا ان ملكها اعتنق الاسلام منذ فترة قريبة.
    وبطبيعة الحال، لم تكن هناك مصلحة مادية مباشرة يرتجي الخليفة تحقيقها من وراء التواصل مع هذه البلاد البعيدة وتوثيق العلاقات معها.
    اذن، على ضوء هذا، ما الذي دفع امير المؤمنين الخليفة العباسي الى ان يأخذ طلب ملك الصقالبة بكل هذه الجدية؟.. ما الذي دفعه الى الاستجابة الفورية لطلباته وتشكيل هذا الوفد الذي تراسه ابن فضلان للتوجه الى هناك؟
    حقيقة الامر انه في الاجابة عن هذا التساؤل يكمن سرالامة.. بعبارة ادق، يكمن سر نهضة الامة وتقدمها ومكانتها العالمية الرائدة في ذلك العصر.
    الجواب ببساطة عن هذا التساؤل ان الخليفة العباسي المقتدر بالله استجاب فورا لملك الصقالبة وشكل هذا الوفد للذهاب الى هناك، لأنه كان يؤمن بالرسالة الحضارية للأمة ولقياداتها.
    المقتدر بالله كان خليفة ضعيفا، وفي عهده كثرت الفتن والقلاقل الداخلية التي ادت إلى مقتله في النهاية، لكنه حين تصرف في هذه المسألة فقد تصرف وفقا للروح العامة التي كانت سائدة لدى قادة ذلك العصر.. الروح العامة التي كان يتصرف بها الخلفاء العباسيون، والامويون ايضا من قبلهم حين كان الامر يتعلق بالدور العالمي للأمة الاسلامية.
    كانت هذه الروح العامة تتلخص كما اشرنا، في ان الامة وقادتها لديهم رسالة حضارية يجب ان يؤدوها، ودور حضاري عالمي يجب ان يضطلعوا به.
    لم تكن هذه الرسالة تنحصر كما قد يتبادر الى ذهن البعض في مجرد نشر الاسلام، بالمعنى الديني الضيق او المتعصب. طبعا، كان نشر الاسلام والدفاع عنه في القلب من الدور العالمي كما فهمه قادة الامة في ذلك العصر، فالاسلام هو جوهر هوية ومصدر قوة ومنعة الامة.
    لكن نشر الاسلام والتعريف به والدفاع عنه كان يندرج في اطار حضاري عام. أي يندرج في اطار رسالة عالمية عامة لنشر العلم والمعرفة، والنهضة والتقدم، واخراج ابناء الدول الاخرى من أسر التخلف والظلام الحضاري.
    لولا هذه الروح العامة ما كانت لتتحقق الفتوحات الاسلامية العظيمة على يد الخلفاء العظام في العصرين الاموي والعباسي، ولما وطدت الامبراطورية الاسلامية أركانها في مختلف ربوع العالم.
    وحقيقة الامر انه هنا بالضبط، يكمن الفارق بين الفتوحات الاسلامية في عصورها الذهبية الطويلة، وبين الاستعمار الغربي في عصوره السوداء الطويلة ايضا.
    العرب والمسلمون في حكمهم للعالم نهضوا به وعلموا شعوبه، واولهم الغرب، معنى التقدم والتحضر والنهضة. والغرب حين حكم العالم نهبه وسلب شعوبه، وملأ العالم قهرا وظلما واستعبادا.
    والحديث في هذه الجوانب يطول جدا. لكن الذي نود تأكيده هنا انه حين نتأمل رحلة ابن فضلان هذه في ابعادها وجوانبها المختلفة، ينبغي ان نتذكر ان قادة الامة اليوم لو كانوا يتصرفون بهذه الروح التي تصرف بها قادة الامة في ذلك الزمن لما كان هذا هو حالنا.
    لو ان قادتنا لديهم تلك الروح، ولديهم ذلك الايمان بعظمة الامة وبدورها الحضاري العالمي، لكان هذا في حد ذاته عاملا كبيرا يدفع نحو تقدمنا وخروجنا من اسر التخلف الذي نعيشه. لو ان قادتنا لديهم تلك الروح لما تراجع دور امتنا في عالم اليوم على هذا النحو المهين الذي تعرفه.
    [b]

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 20, 2024 12:28 pm