عملية وضع الاستراتيجيات تخضع لضوابط ومحددات تكون في أشكال مختلفة مثل القوانين المرعية في الدولة، والايرادات المالية المتوافرة للتنفيذ، والقيم المجتمعية التي تستثني بعض الحلول التي تتعارض مع الاخلاق والدين، والمعاهدات الدولية مثل حقوق الانسان ومكافحة الفساد وغيرها. ومن أهم المحددات التي اعتمدتها الرؤية هي مبادئ العدالة والاستدامة والتنافسية. اي ان جميع الاستراتيجيات يجب ان تخضع لهذه المبادئ في مرحلة الاعداد والتنفيذ والتقييم والمراجعة. كما يجب ان تخضع لها جميع الممارسات الرسمية لكي يلتزم بها المجتمع والمواطن. وفي هذا المقال سوف نتطرق الى التنافسية ومتطلبات تحقيقها.
تقول الاستراتيجية ان "حجم الابداع والابتكار في البحرين يكاد يكون معدومًا. وما لم تحدث طفرة حقيقية في الإنتاجية والابتكار فإن الشركات البحرينية لن تتمكن من مواجهة حدة المنافسة على المدى الطويل". فكيف سيتم احداث هذه الطفرة؟
تعتمد الاستراتيجية في احداث هذه الطفرة على أمرين الاول التعليم وثانيا البحث العلمي. بالنسبة للتعليم فقد وضعت الحكومة مبادرات لتطويره مثل تمهين المعلم وفتح كلية التكنولوجيا وغيرها من البرامج التطويرية. لكن هناك مطلبين في التعليم يحتاجان الى تكريس لاحداث التصحيح. اولا تغيير في التفكير والمفاهيم التعليمية واعادة تعريف التفوق العلمي ليكون التسابق على العلم والمعرفة أكثر من التسابق على تحصيل العلامات والمجاميع التي اصبحت تقترب من الكمال (100%) وليكون إيجاد الفكر النقدي الابداعي الحر المؤدي الى الابتكار هو الهدف الذي نصبو اليه وهذا يتطلب تغييرا في الفكر السياسي والثقافي ومفاهيم حرية الكلمة. ثانيا التأكد من أن المؤشرات التي وضعت في الاستراتيجية لتقييم الفكر النقدي في التعليم تكون كافية لمتابعة القدرة الابتكارية والنقدية. اما فيما يتعلق بالبحث العلمي والتطوير فان ماورد في الاستراتيجية يعتمد على تحفيز وتشجيع البحث والتطوير وإيجاد مناخ محفز للريادة والابتكار، فماهو هذا المناخ؟ وهل تم وضع مبادرات لتعزيزه او ميزانيات لتمويله؟ وماهي الوسائل والبنى التحتية والسياسات الشاملة التي وضعت لتحقيقه؟ وهل ستقوم الحكومة باخذ زمام المبادرة في التمويل؟ وهل الانفتاح السياسي والاقتصادي والمعرفي والمعلوماتي يسير بنفس تسارع العولمة وثورة المعلومات التي تملي منطق التنافسية؟ وماهي المؤشرات التي سيراقبها المجتمع لمتابعة التحول الى الاقتصاد المعرفي؟
في ادبيات سياسات البحوث والابتكار هناك منظومات من السياسات تقوم على مفاهيم مختلفة. فمثلا في كتاب صدر في عام 2001 (Laredo & Mustar) يشرح مقارنة بين مختلف السياسات الابتكارية التي اعتمدتها عدد من الدول ويخص بالذكر بعدين للابتكار الوطني، حددهما الاقتصادي الفرنسي 1949 Weiller. البعد الاول يتعلق بالسياسات والاخر بالتطبيق. اهم ما نتج عن ذلك هو مفهوم "المنظومة الوطنية للابتكار". والكلمة المركزية في هذا المفهوم هي "المنظومة" التي يحددها الكتاب في نوعين من المنظومات، الاولى تلك التي تتخذ الشكل المحدود الذي يركز على التنظيمات والهيئات والمؤسسات العاملة بشكل مباشر في البحث العلمي مثل مراكز الابحاث والمعاهد التكنولوجية والجامعات. والثاني تلك التي تتخذ الشكل الشمولي الذي يُشرك التنظيمات والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي لها علاقة بانشطة التعلم والبحث والاستكشاف. ويؤيد ذلك ما توصل إليه نلسون في دراسة نشرها في 1993 اتضح انه على الرغم من ان الدور المحوري الذي تلعبه شركات القطاع الخاص في تطور الابتكار، فإن الدراسة وجدت ما يدل على تأثير كبير للبيئة المجتمعية الوطنية التي تعيش فيها الشركات الخاصة (511 ،1993 Nilson). لذلك توصي الدراسات بأنه من المناسب الحديث عن البنى التحتية المساندة لرفع تنافسية الشركات والتي تتأثر اولا بنجاعة السياسات العامة وبالتحديد تلك المتعلقة بالسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية والتجارية) وثانيا سياسات المنظومة التعليمية وبالذات التعليم العالي وقدرته على التدريب لمواجهة متطلبات الصناعة، وثالثا وهو الاهم والمفقود في الرؤية 2030 والاستراتيجية الوطنية، سياسات الحكومة في التمويل والحماية. حيث اتضح ان جميع الدول التي شملتها الدراسة خصصت حكوماتها تمويلا للابحاث الأساسية، كما تشير الى أهمية اتباع النموذج الياباني الذي يركز على التقنيات المدنية، تلك التي تعنى بتطوير حياة المواطن واستدامة الموارد، وليس تدميرها، واعتبار متطلبات التنافسية تعتمد على الاستدامة والعدالة وان الكل يشكل منظومة يعتمد كل منها على الآخر في بقائه وازدهاره. وبالتالي فان النتائج تشير الى وجود قناعة تامة اممية بأن اي دولة ليس لها سياسة علمية تقنية مبنية على البحث العلمي الاساسي فانها معرضة للتخلف في المنافسة. كما تشير النتائج الى ان الراعي الرئيسي للابحاث والابتكار هو الدولة، بالتعاون مع القطاع الخاص، فحتى امريكا تشكل مساهمة الحكومة في ميزانية الابحاث ما يزيد على 50%.
استنادا إلى هذه الدراسات نرى ان التشجيع وتحفيز الابتكار لا يأتي بالجوائز والبعثات ومشاريع تمكين، بل يحتاج الى جهد ضمن مشروع وطني اول خطواته اسناد المهمة الى جهاز مستقل يكون مسئولا عن تطوير القدرات الابتكارية البحثية، ثانيا وضع سياسة واهداف وطنية واستراتيجية تقنية علمية يشترك في وضعها القطاع العام والخاص والكفاءات من المجتمع، ثالثا تخصيص تمويل لا يقل عن 3% من الناتج القومي تسهم فيه الحكومة بالنصف او اكثر ويسهم القطاع الخاص بالباقي. ومقترح الدكتور وهيب الناصر حول الحث على اوقاف للبحث العلمي خطوة هامة لكنها ليست بديلا عن مساهمة الدولة. وللحديث بقية.