كانت حيوانات الغابة تعمل متعاونة في نشاط ووئام.. تبتكر وتطور.. والأسد على مقربة منها.. يوسد رأسه الضخم بكفيه.. يلعق زوايا فمه بلسانه.. ويراقب الحيوانات في غبطة.. وبدا كأنه يبتسم ابتسامة جانبية راضية.. ..
كان هذا الوئام يسبب ضجراً وضيقاً للثعبان وهو يتكور في جحره المجاور للدوحة العتيقة.. أخرج الثعبان نصف جسمه.. رفع رأسه المدبب في خبث.. جال ببصره في أنحاء الغابة يستكشف.. انسل خارجاً من حفرته.. تلوى بحذر يزحف نحو الأسد.. كان الأسد في تلك اللحظة سارحاً في الأفق يشحذ ذهنه في مشروع تطوير الغابة.. أحس بجسم أملس ينزلق منساباً يلامس جسده ويروم الحديث معه بإلحاح سمج.. رمقه بنصف عين.. تثاءب في استرخاء لا مبال.. أدار لسانه في زوايا فمه يرطبه.. دهس ذبابة طنت ثم حطت في زاوية عينه الدامعة.. وأومأ إليه بالإذن.. مط الثعبان جسمه يتطاول.. وهمس في أُذن الأسد بكلمات.. كان وجه الأسد يتلون.. تتبدل سحنته مع كل فحيح ثعباني!
انســـحب الثعبان مبتعداً بعد أن أتم مهمته على الوجه الأكمل.. وبالطبع لم ينس تلميع ذاته أمام سيد الغابة.. عاد الثعبان إلى جحره بجوار الدوحة العتيقة.. أخرج رأسه وضيّق عينيه يسترق السمع..
زمجر الأسد زمجرات متواليات.. أعقب ذلك هدرة مقتضبة تنم عن غيظ مكظوم.. دخل على إثرها القرد يتقافز في جذل.. نهنه الغضنفر.. دار في مكانه عدة دورات.. وطلب مثول النمر للجلسة الطارئة - كان النمر قد عرض على الأسد خطة محكمة لتحديث الغابة - دخل النمر مهرولاً مغتبطاً مرفوع الذيل.. لكنه انكمش ممتعضاً وأرخى ذيله بعد نظرة عابرة على وجه الأسدالمكفهر. .كانت الغابة في تلك اللحظة الحاسمة كلها آذان صاغية.. زأر الهزبر وسط وجوم الترقب.. وأمر بإلغاء مشروع التطوير لأنه يماثل مشاريع غابية أخرى في البرية.. نهض النمر.. ارتفع ذيله.. حاول أن يدافع عن المشروع.. لكن الأسد رفع قبضته في حزم وأنهى الحوار!... في هذه اللحظة كان الثعبان يراقب من جحره المجاور للدوحة العتيقة ويحفر حفراً في كل الأمكنة... وكان المشهد يتكرر: (تدخل الحيوانات إلى عرين الأسد.. يومئ برأسه مستحسناً الفكرة.. تخرج تتقافز وتشرع في العمل.. يزحف الثعبان نحو الأسد.. يمط جسمه يتطاول.. يهمس في أذنه بكلمات.. يتلون وجه الأسد.. تتبدل سحنته.. يدعو الحيوانات إلى جلسة طارئة ويلغي المشروع)!...
وكانت الغابة يوماً بعد يوم تتدهور.. تتصارع حيواناتها بالأنياب والقرون والحوافر والأظلاف.. تكاد من فرط التنازع والفوضى أن تتلاشى من الوجود.
* * *
في الجانب الآخر.. كان الثعلب يراقب كل الأحداث.. وفي اجتماع "فوق العادة" مع الحيوانات.. عقد العزم على إسداء النصح الصادق.. اقتحم على الأسد خلوته وحركه من سباته وغفوته- في هذه اللحظة كان الثعبان في جحره المجاور للدوحة العتيقة في حالة سبات.. لأنه يعلم أن الأسد لا يستقبل الحيوانات في هذا الوقت بالذات- ..فرك الأسد عينه الدامعة بظهر كفه.. تثاءب في تراخ واثق.. حدج الثعلب بنظرة مستنكرة حملت معاني الغضب.. لكنه بالرغم من ذلـــك اعتــــدل جالساً يسمع.
قال الثعلب مستمداً من قاموس فصاحته ودهائه: ياسيدي الضرغام.. إن من ينقل لك الكلام ينقل عنك.. إن الذين لا يعملون يؤذيهم أن يعمل الآخرون.. إن الفاسق دائماً يأتي بالنبأ.. إن صاحب النفس القبيحة لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً.. إن النرجسي العاشق لذاته الخربة يلمعها بتشويه صور الآخرين.. ياسيدي الأسد.. النفوس المريضة الحاقدة تسعى للدمار والخراب.. تؤذيها الساحات الآمنة.. يعكر صفوها الوفاق فتنثر بذور الشتات في مجتمعات التآلف.. ياسيدي الأسد.. ليبارك اللّه في عملنا الجماعي.. نطلب منك أن تطرد الثعبان الخبيث من غابتنا الآمنة والمؤتلفة على قلب حيوان واحد.
* * *
برز الثعبان من جحره المجاور للدوحة العتيقة.. لمح الثعلب وهو يغادر عرين الأسد لكنه لم يسمع الحديث الذي دار.. جاء يزحف كالعادة.. كان الأسد في هذه المرة ينتظره في شوق.. وبحفاوة مفخخة استقبله.. هش الثعبان وبش منخدعاً بالظاهر.. وبدأ ينفث السم: ياسيدي الأسد لا يغرنك حديث الثعلب في شأن تطوير الغابة.. لأنه من أوله إلى منتهاه خطل في خطل!..
ابتسم الليث.. كان صدره يعلو ويهبط وجسمه يستطيل ويتمدد.. أشار إلى الثعبان- وكان لا يزال يبتسم- أن يقترب أكثر.. تقدم الثعبان حتى صار في متناول الليث المبتسم.. رفع الأسد قبضته فوق هامته مكورة في الهواء.. وبعنف رحابة صدر انقبض.. هوى بها على الرأس المدبب!
* * *
مع تباشير الصباح.. عادت الحياة بكل جمالها ورونقها إلى الغابة.. دب النشاط وساد الوئام.. كانت الأغصان تتمايل طرباً على أوتار هبات النسيم وايقاع زخات المطر المتساقط.. النمر الأرقط يهرول هنا وهناك مغتبطاً باعتماد خطته المحكمة في تطوير الغابة.. الغزالة تبادل الأغصان طرباً بطرب في رشاقة.. تهز رأسها يمنة ويسرة.. تنفض أذنيها لتخلصهما من حبات المطر المنثال.. الزرافة تطوح رقبتهاتمرح مثل طفلة ساذجة بصفاء.. والحُمر الوحشية مع الأهلية ترعى فوق الهضبة الخضراء.. والطاووس فرد جناحيه خيمة واندست تحتهما عصفورة بللها الماء..وبعد جفاف طال.. سال الوادي يعم الأرجاء.. وكان القرد يتقافز ويصيح.. يغرس فسائل الموز في حفر الثعبان.. والأسد رابض هناك.. يوسد رأسه الضخم بكفيه.. يلعق زوايا فمه بلسانه.. يراقب الحيوانات في غبطة.. طنت ذبابة تغازله.. جالت ثم حطت في زاوية عينه الدامعة.. نظر إليها بهدوء وأغمض عينه دون أن يدهسها بكفه.. وبدا كأنه يبتسم ابتسامة جانبية راضية!
[b]